لغز مقام الضاوية
الصفحات تئن بحمولة ثقيلة، يواصل هذيانه في الصفحات المتبقّية، بعض العبارات ممحيّة وبعضها مشطّب أول مرة أرى الشطب في المذكرات بهذا الشكل البارز، هذا ما حملته الصفحات 37 و38 شطْب مع حذف أو قفز على الكلمات إنها ليست ممحية تبدو الورقات كاللغز لا أدري ما تخفي تشبه الخريطة لو نظرت لها من فوق...
لا أدري ما العمل أشرفت على نهاية المذكرات، لا شيء واضح ولا أدري من أين أبدأ، يوميات كثيرة وقصص مختلفة ورموز مبعثرة لعل سجني لسنوات قد يكفي لحل كل هذه الألغاز ...
أصل الصفحة 39 يظهر من سطرها الأول أنه متعب ووصل إلى حافة الهلاك أشعر أنه يسابق الزمن ويبدو من خطّه أن يده ترتعش كأنه يريد الانتهاء قبل الموت، إنها لحظات قاسية أن تنتظر موتك المؤكّد، وكل من أحببت بعيدون عنك إنك وحيد، وما يزيد الأمر قساوة اعتقادهم موتك وأنت لا زلت على قيد الحياة، معادلات صعبة تضعنا فيها الحياة، منذ بدأت قراءة هذه المذكرات لم يعد الهم همي، فقد نسيت أوجاعي كلّها أمام هذا الرجل المسكين، لكنه مات من أجل قضية لهذا سيكون سعيدا وكل من عرفه يعرف أنه مثال للمناضل والرجل الشهم الشريف، صحفي مناضل عاش ومات لأجل قضيته وهي كشف لصوص الوطن، أما أنا لا أظن أن أحدا يذكرني بل لا أظن أن أحدا افتقدني، فأبي مات من زمن بعيد وأمي لا أكاد أعرفها، وزوجة أبي لا تعتبرني إنسانا أصلا، وأشباه الأصدقاء سيقولون تخلصنا من الأعشاب الضارة، فأنا عشت بلا أهداف مسطّرة، عدا حلمي أن تكون لي سيارة خاصة أو أهرب خارج البلاد نحو أوروبا، لكنني جبان لم أسع لتحقيق أحلامي وهو عين الجبن، ابن عمي زكي رغم أنه متطرّف لكنه حلم بالقتل وها هو حقق حلمه .. صليحةهي أيضا حققت حلمها كانت ترغب في الزواج رفضت ابن عمي لأنه متشدد،وتزوّجت زكريا، أحد عمال النظافة في البلدية، رجل كريم وشهم وقوي، أعرف أنها سعيدة معه، وسيشبعها حبا، هو أفضل من ابن عمي المعقّد، رغم أنه لا يصلي صلاة الصبح جماعة، إنه إنسان لم يعش يوما على هامش الحياة، بل وسط زحامها يصارعها، وبعد تجربتي أراه الأفضل فينا، رغم أنه لم يدخل الثانوية وأبوه من أفقر أهل المدينة لكنه إنسان ... هل يكفي أن تكون إنسانا لتعيش سعيدا؟ ... أكبر ما عانيته مع جيلي، أحلام اليقظة، نحن نحلم كثيرا؛ الحلم جميل لكنه غير مجدٍ إن كان بلا عمل ولا أمل ... كيف لطالب حقوق في بلاد لا تطبّق فيها القوانين، وتتغيّر كل شهر أن يعمل وتصبح له سيارة، وماذا أفعل بشهادة الحقوق في أوروبا، أقول لهم عندي علم بالقوانين التي تنتهك في بلادي وجئتكم لأعمل عندكم وأنتم بلاد تطبيق القانون ... أحلامنا مرهونة بمن نكون، بقدراتنا، لماذا نعتقد دوما أننا الأفضل؟ وأننا محور العالم ومركزه، ونحن لا نساوي شيئا في سوق الإنسانية، نصلي ونكذب ونسرق ونقتل ونفعل الأفاعيل لا شيء يردعنا نحن قوم منافقون لهذا جاءت أنظمتنا على شاكلتنا فاسدة ومتعفّنة ... يبدو أني تأثرت بكلمات هذا الرجل لم أكن يوما صاحب فكْر ورأي، كنت مجرّد شاب تافه كغيري من أبناء جيلي المدجّنين، نغضب لأتفه الأسباب، ونحلم كثيرا ونظن أننا الأفضل ...ليت الزمن يرجع، سأكون غيري سأصبح مناضلا، سأنضم للحركات الطلابية التي لا تنفع لشيء سوى القعقعة، أنا سأنضم لها فقط للنضال كي أدرس فكرهم أتعلّم ... مازال الوقت أمامي، سأخرج من هذا المكان وأكون مناضلا، سأجد الوثائق وستكون منطلقي للتحرر من العبودية وقيادة بلادي إلى بر الأمان... هههه يبدو أني فقدت عقلي ... هل صدّقت نفسك يا أنا؟ لا زلت لا شيء أنت مجرّد رقم من أرقام صديقك خالد أنت مجرّد حلم عابر لا معنى له أمام الكوابيس الكامنة في سمائنا، أثّرت فيك بضع صفحات كتبت قبل عشرين سنة، ومن يدري لعل الرجل مجنون... ستصبح إنسانا ومناضلا ومحررا؟... فكّر في نفسك أولا وأنت ستتعفّن في هذا المكان القذر، فكّر في جسدك الذي نبتت عليه الحشرات سيقتلك العفن قبل خروجك... ما أقوله لي صحيح أنا كالصفر إلى اليسار لا معنى لي في هذا البحر المتلاطم ....
لكن يبقى أن أحاول ربما سيصبح لي معنى ربما هي اللحظات الحاسمة في حياتي التي ستجعل مني إنسانا حقيقيا ربما سأجد الضاوية.. ربما ... ربما....