ذكرى وألم
لوحة واقعية
(في اللوحة الواقعية تعمل الكاميرا عن متابعة الحدث كأنّ المشاهدَ متواجد بشكل واقعي وحقيقي، فاللوحة لا تُصوَّر متلفزة ولا بشكل سينمائي خارجي، بل بنمط واقعي يجعل المشاهد جزءا من الحدث وكأنه شخصية وهميّة متواجدة مع شخصيات اللوحة تتابع الأحداث عن قرب، لهذا يتم التصوير بطريقة مختلفة، لها ميزات أكثر واقعية من أنماط التصوير الأخرى)
منظر بعيد للحافلة وهي متوقفة بين الجامعة والمدينة... نقترب فنلاحظ .. منطقة صحراوية
قاحلة، الطريق خالية (بسبب المباراة) ينزل السائق حاملا المذياع، يتذمّر وهو يقول:
اللعنة على الإذاعة... ويقولون نحن في مدينة ... أثيوبيا أفضل منا في الاتصال...
يتجه نحو مقدّمة الحافلة، وهو يراقب الطريق، لعله
يظفر بسيارة تقلّه إلى المدينة، وفي الوقت ذاته يحاول سماع الإذاعة... في هذه اللحظات
تبدأ ريح بدايات جوان الساخنة وقت المساء، تشكل بالرمال انحناءات ذهبية جذابة على جانبي الطريق...
ينزل الشاب (صاحب النظارات) والفتاة من الباب الخلفي للحافلة، وهما يضحكان ويتجهان إلى كثبان
الرمال القريبة، وهما يسافران بنظراتهما في أشعة الشمس والأفق المتسع من
حولهما.. يستقران على مرتفع من الرمل.... ويواصلان حوارهما..
تقول: أكمل ماذا حدث
بعد الحريق كيف نجوت...
يقول: أنت تريدين معرفة كل شيء .... دعك من حكايتي إنها
محزنة وقد تُنسينا اللحظات الجميلة التي نعيشها في هذا الجو ... قلّ ما نحصل على
مثله...
تقول: أنت بدأت، وعليك إكمال القصة شوّقتني... ثم هي
تتناسب والصحراء التي نحن فيها...
يقول فعلا قلوبهم صحراء، بل هي أقصى، على الأقل هذه فيها
بعض الحياة .... هم لا....
غرفة أبي التهمتها النيران بالكامل... راح ضحية غدر وخيانة، أمي خرجت بحروق بالغة، لحسن حظي وأخواتي كنا في
الغرفة المطلّة على الفناء، والنافذة مفتوحة، فلم يصعب على الجيران اخراجنا، أنا لم أكن نائما، فلم آكل شيئا من العشاء الأخير، فعادة لا آكل وقت الليل بسبب مرض معدتي الدائم... شاهدت كل شيء بعيني الصغيرتين...
تقول: لكن كيف عرفت بالمنوم والمؤامرة..
يقول عرفت ذلك فيما بعد، لما عشت مع عمي الحقير، لكن لم
أستطع فعل شيء كنت صغيرا أسمع وأكتم لا دليل لدي وخفت أن أموت كأبي...
أتت النار على غرفة أبي ومدخل
المنزل ماكاد السكان يدخلوا إلا وقد تفحّم كل شيء أبي أيضا... أمي حاولت الخروج
يبدو أنها لم تأكل كثيرا لأنها في العادة لا تكثر الطعام في الليل مثلي، لهذا أفاقت مع أول ألسنة اللهب لكن الباب كان مقفلا من الخارج بفعل فاعل.... انقضوا جسدها نصف
محروق.... أكثر من سنة وهي في المستشفى.... شفيت حروقها لكل قلبها لا.... حروقها
من الدرجة الثالثة... أصيبت بالجنون أمام هول ما رأت....
عمي ظل يردد الله يرحمك أخي أولادك وزوجتك أمانة في عنقي
إلى يوم الدين...
كنت أراه أحيانا يبكي ... كدتُ أصدقه....
أما زوجته فبدأت تخطط للأسوء وتدفعه للاستيلاء عن كل شيء
وبيعه... دعته للحجر على أمي بسبب جنونها النسبي وأصبحت تخذرها بالدواء... ونحن
صغار لا حول لنا ولا قوة... تم الأمر بيعت الأرض وبدأ المصنع يُفلس إلى أن أغلق
وأخذه الدائنون وباعوه بالمزاد... لم يبق إلا البيت...
تقول: وماذا فعل عمك بالمال...
يقول: ههه هي من فعلت، بنت بيتا آخرا، واشترت محلات وبدأت
تجارة أخرى... همّها هو افلاسنا نحن...
تقول وأمك..
تقول: كيف ذلك؟..
يقول: إنها وثيقة الوصية، أبي كتب وصية قبل وفاته بفترة طويلة،
وكتب فيها أن البيت لا يباع أبدا ويبقى وقفا للمحتاجين من ذريته... سمعتهم يتحدثون
عن اتلافها بعد فترة من موت أمي..
صدقيني ارتاحت من بشاعة الدنيا والناس..
ثم يواصل كلامه بعد أن يتنهّد بعمق: أكثر المواقف التي رسخت في مخيّلتي ولا يمكنني نسيانها مشهد موت أمي، يومها دخلت الغرفة في العلّية حيث أستقرّ بنا الأمر بعد أن طردنا من بيتنا، سمعت صراخا وجَلَبة، فتحت الباب وجدتها معلقة بحبل تتدلى وتنظر لي بحرقة .. أنا الولد الصغير الخائف...
مشهد آخر ظل عالقا هو مشهد رحيل أختي الصغرى، حيث أخذتها قريبة لنا -ليس لها أولاد- تسكن مدينة بعيدة، كان ذلك بعد وفاة أبي بعام ونصف تقريبا، كانت أمي تعاني صدمة كبيرة ولم يعد بإمكانها التعرف علينا، فدبّرت زوجة عمي حلا للخلاص منا واحدا احدا ...
ثم يواصل كلامه بعد أن يتنهّد بعمق: أكثر المواقف التي رسخت في مخيّلتي ولا يمكنني نسيانها مشهد موت أمي، يومها دخلت الغرفة في العلّية حيث أستقرّ بنا الأمر بعد أن طردنا من بيتنا، سمعت صراخا وجَلَبة، فتحت الباب وجدتها معلقة بحبل تتدلى وتنظر لي بحرقة .. أنا الولد الصغير الخائف...
مشهد آخر ظل عالقا هو مشهد رحيل أختي الصغرى، حيث أخذتها قريبة لنا -ليس لها أولاد- تسكن مدينة بعيدة، كان ذلك بعد وفاة أبي بعام ونصف تقريبا، كانت أمي تعاني صدمة كبيرة ولم يعد بإمكانها التعرف علينا، فدبّرت زوجة عمي حلا للخلاص منا واحدا احدا ...
تقول: معك حق... ثم لا تتمالك نفسها وتبدأ بالبكاء...
يحاول مواساتها وهو يقول: أخبرتك لا داعي لاكمال قصتي ...
لا أريد تعكير جو اليوم، ثم الأمر مر عليه سنوات... تعوّدتُ على الحزن..
تقول: أرجوك سامحني انفعلت لكن الأمر محزن...
تحتضنه ... يتدخل السائق، وهو غاضب لهذا تتأخران إذن
للاحضان لا لسقاية الأزهار ... ينتفضان في مشهد مضحك ويقول له الفتى: لا تفهمنا خطأ
هي كانت خائفة من الكلاب...
يقول السائق: كلاب، أنتم الكلاب أخّرتموني على المباراة من
أجل الأحضان...
في هذه اللحظات يصرخ المذيع هدف هدف...
ينتفض السائق ويرقص ... لكن بعد لحظات تخبره الفتاة بأن
الهدف في مرمانا مرة أخرى إنه الهدف الثاني ولم يبق عن انتهاء المباراة إلا 3 دقائق إنها الضربة القاضية.... ينظر لهما بحرقة والدموع في عينيه لتنتهي اللوحة..